جند@الله الحاكم بكتاب الله
عدد المساهمات : 1524 إِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ : 3020 وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً : 8 الموقع : https://gondela.roo7.biz
| موضوع: التصوف الصحيح هو عين التوحيد الأربعاء يناير 19, 2011 11:19 pm | |
|
بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على خير خلق الله
ثم اما بعد
اليكم اخوانى و اخواتى
اعضاء المنتدى
التصوف الصحيح هو عين التوحيد
فموضوعي بعنوان "التصوف الصحيح هو عين التوحيد"،
وهذه الكلمة ذات قرنين أذكرهما بإيجاز، وسيأتي التفصيل
إن شاء الله
أول القرنين : المراد إنصاف التصوف. والقرن الثاني : المراد إصلاح التصوف، وسأفصل هذين القرنين _إن شاء الله_، لكن أبدأ بشيء من التاريخ وبيـان أصول النشأة ونحـو ذلك من غير تطويل فأقول : التصوف الصحيح بني على الزهد، والزهد أصل من أصول الشريعة، ولذلك عندما كتب المتقدمون في هذا الشأن كتبوا فيه تحت هذا المصطلح " الزهد " كعبد الله بن المبارك المتوفى سنة(181 ) من الهجرة، وكهناد ابن السري، والإمام أحمد ابن حنبل، هؤلاء كتبوا تحت مصطلح "الزهد " فعندئذ المصدر واضح : الكتاب والسنة والقدوة رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ وأصحابه الكرام والتابعون ومن بعدهم من أهل القرون الثلاثة المفضلة، ومن المهم في هذا الشأن ربطه بالرعيل الأول، الصحابة الكرام _رضي الله عنهم أجمعين_، ولذلك فقد أجاد الحافظ المحدث أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (حلية الأولياء) إذ ذكر المتقدمين والمتأخرين من أهل العبادة والزهد مبتدأ بأصحاب رسول الله_صلى الله عليه وسلم_، وفعل مثله ابن الجوزي الحنبلي المتوفى سنة (597 ) من الهجرة في كتابه (صفة الصفوة)، وكذلك أبو القاسم التيمي في (سير السلف)، ولكن أكثر من كتب في التصوف أهمل ذكر طريقة الصحابة والتابعين، وبنى على ما روي من أقوال وأحوال وزهد المتأخرين من بعد القرون الثلاثة المفضلة أو من عند إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن العياض، وأبي سليمان الداراني ونحوهم، كما فعل أبو القاسم القشيري برسالته القشيرية، وكمـا فعل أبو عبد الـرحمن السلمي فـي (طبقات الصوفية)، وكما فعل أبو بكر الكلاباذي محمد بن إسحاق في كتابه (التعرف لمذهب أهـل التصوف)، وكما فعـل أبو نصر السراج في كتابـه ( اللمع ).
هذه أهم مصادر التصوف، والكتب السابقة الـتي ذكرناها أعظـم مصادر التصوف (حلية الأولياء) لأبي نعيم و (صفة الصفوة) لابـن الجوزي و (سير السلف) لأبي القاسم. هذه مصادر التصوف على الطريقة الأولى التي تشمل المتقدمين والمتأخرين؛ يبدؤون بأصحاب رسول الله_صلى الله عليه وسلم_، فإذن وضعوا الأمر في نصابه الصحيح، وهذا أسلوب آخر لمن ألف في هذا الباب اقتصر فيه على المتأخرين من العباد والزهاد وما نقل من أحوالهم وأقوالهم، أو ابتداءً من إبراهيم بن أدهم والفضيل ابن عياض ومن بعدهم.
وأصلاً بدأت ظاهرة العباد والزهاد منذ وقت مبكر؛ من وقت التابعين، يعني من تفرغوا للعبادة وللزهد وانقطعوا عن الدنيا، وفي هذا الباب يذكر أبو نعيم أويساً القرني كمثال على هذا الأسلوب "الزهد".
وكان لظهور هذه الفئة من العباد والزهاد تذكيراً للمجتمع وإيقاظاً له، خاصةً أن بوادر الترف في حياة المجتمع كانت قد بدأت تظهر فكان لظهور هؤلاء العباد ولأقوالهم وأحوالهم أثراً تحذيرياً للمجتمع من أن يقع فريسة الترف والغفلة وتذكيراً له بمهمته الأساسية من الذكر والعبادة، وإعلاناً بأن هذه الدنيا لا قيمة لها، فهذا كان له أثر الإيقاظ للمجتمع وبوادر الترف تهجم عليه، ولذلك كانت أقوال هؤلاء العباد تدور حول هذه المعاني وحول محبة الله _عز وجل_ والانقطاع لـه وتقديم محبته والتعلق به على سائر العلائق، وكانوا يوصون مع ذلك بأن يرد كل ما يصدر عنهم إلى الكتاب والسنة.
يقول أبو يزيد البسطامي : " إذا أعطي الرجل من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا بـه حتى تروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة.
والتصوف إذن بهذا المفهوم ليس منفصلاً عن الكتاب والسنة، بل هو مذهب في السلوك مستنبط منهما ومـن أحوال الصحابة الكرام، وآدابه ليست غريبة على الدين.
يقول سهل بن عبد الله التستري : أصول طريقتنا سبعة : التمسك بالكتاب، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، وترك المعاصي، والتوبة، وأداء الحقوق. فهذه الآداب ليست غريبة على الدين هذا مذهب في السلوك مستنبط من مصدر هذا الدين الكتاب والسنة. وكان هؤلاء الأوائل من أئمة التصوف ملتزمين بذلك.
يقول أبو سليمان الداراني، وهو أحد أئمة التصوف بعد القرون الثلاثة : قد تخطر النكتة من نكت القوم في قلبي أياماً فلا أقبل منه ـ أي من قلبي ـ حتى يأتي بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة.
ومثل هذا الكلام نقل عن الشيخ عبد القادر الجيلاني _رحمه الله_ يقول: " القدر ظلمة ـ أي الحياة المقدرة التي نعيش فيها ظلمة ـ فادخل في الظلمة بالمصباح الذي هو الحكم، والحكم هو كتاب الله وسنة رسوله_صلى الله عليه وسلم_؛ لا تخرج عنهما ".
والشيخ عبد القادر الجيلاني كان عالماً فقيهاً متمسكاً بالكتاب والسنة، وهو من أئمة المتصوفة المتأخرين، ولذلك عني شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ بكلامه عناية عظيمة، ونقل بعض عباراته من كتاب " فتوح الغيب " وشرحها، تجد ذلك في جزء السلوك من مجموع الفتاوى، وكانت عباراته إذا احتملت عدة وجوه يحملها على أحسن الوجوه وأحسن المعاني، وكان يثني على أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي الحنبلي، وهذا أيضاً من أئـمة التصوف، صاحب (منازل السائرين)، وهذا كتاب مشهور يعد من أحسن مصادر التصوف الصحيح، وخاصة مع شرحه(مدارج السالكين)، شرحه الحافظ ابن القيم _رحمه الله_ بكتابه (مدارج السالكين)، وهذان الإمامان من أئمة المدرسة السلفية.
شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن القيم يضربان لنا أروع الأمثلة على أخلاق السلف، وعلى معلم مهم من معالم منهج السلف، وهو (الإنصاف)، وهو من أهم أخلاق علماء السلف.
شيخ الإسلام ابن تيمية يمدح الشيخ عبد القادر الجيلاني مدحاً عجيباً، وينقل كلامه كما ذكرت ويفسره بأحسن المعاني ويحمله على أحسن الوجوه حتى ولو احتمل عدة احتمالات، وكـذلك فعـل الحافظ ابـن القيم في (مدارج السالكين) عندما شرح كلام الهروي في (منازل السائرين) كان يحمل كلام الهروي على أحسن المحامل وعلى أحسن المعاني.
ولما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية كلام بعض الأئمة في التصوف أو في ذم التصوف، وكان أشد هؤلاء الأئمة الإمام الشافعي : ورد عنه ذم التصوف مطلقاً، وروي عن الإمام مالك أيضاً، بينما كان الإمام أحمد يقرأ كتب الحارث المحاسبي ونقل عنه شيء من عبارات المتصوفة، ولم ينقل عنه ذم التصوف كما نقل عن الإمام الشافعي.
الإمام الشافعي كان شديداً على التصوف وعلى الكلام، وورد عنه ذم الكلام مطلقاً، وحتى قال : من اشتغل بعلم الكلام أرى أن يجلد بالسياط ويطاف به على دابة بين الناس، ويقال: هذه عقوبة من يشتغل بالكلام عن كتاب الله وسنة رسوله_ صلى الله عليه وسلم_.
ماذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بعد هذا النقل؟ يقول : " والتحقيق أن فيه الممدوح والمذموم ـ يعني في مذهب التصوف الممدوح والمذموم ـ والمذموم منه ما يكون اجتهادياً، ومنه غير ذلك، كفقه الرأي فإنه قد ذم فقه الرأي طوائف من الفقهاء والعلماء والعباد ". ثم يقول : " ومـن المتسمين بهذا الاسم ـ أي التصوف ـ من أولياء الله وصفوته وخيار عباده ما لا يعلم عددهم إلا الله، كما أن من أهل الرأي ـ أي من فقهاء الرأي ـ أهل العلم والإيمان طوائف لا يعلم عددهم إلا الله ".
هذا الكلام من إنصاف السلف، ولهذا أخذت معالم التصوف الصحيح أكثر ما أخذته من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وأسلوبه؛ مع أنه من أشد من نقد التصوف وعلم الكلام، ولكن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ولا يحمل العالم الصحيح على عدم الإنصاف، وعلى الرغم من نقده لمذهب التصوف فقد كان منصفاً في الحكم عليه ودقيقاً في بحث تفاصيله والتفريق بين ممدوحه ومذمومه.
وهذا الممدوح الذي يشير إليه شيخ الإسلام هو ما نعنيه بالتصوف الصحيح فمحاولتنا هذه ذات قرنين أو ذات شقين : الشق الأول : إنصاف هذا المذهب بالتفريق بين صحيحه وسقيمه، فالتصوف في جذوره الأولى كان تصوفاً صحيحاً كما ضربنا على ذلك الأمثلة وأوردنا الأدلة من كلام أئمته، فمن إنصاف هذا المذهب أن نبرز الوجه الصحيح منه ونميزه عن الوجه المنحرف.
والتصوف مدرسة كبرى في حياة المسلمين لا يمكن إلغاؤها بجرة قلم، بل يجب الإفادة من صوابها وعرض ما سوى ذلك على الكتاب والسنة، كمدرسة الرأي سواءً بسواء، وقد لاحظنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية ضرب المثال بهاتين المدرستين الكبيرتين، مدرسة التصوف في علم السلوك، ومدرسة الرأي في علم الفقه.
هاتان المدرستان كبيرتان لا يمكن إلغاؤهما بجرة قلم، بل يجب احترامهما والإفادة من صوابهما، وأصلاً كل المذاهب والمقالات والأفكار يجب أن تعرض على الكتاب والسنة فما وافقهما قبلناه وما ناقضهما رددناه، وهذه وصية أهل التصوف أنفسهم أبي يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلاني، وبقية أئمة التصوف الصحيح ورموزه.
والشق الثاني لهذه المحاولة الإصلاح : التصوف دخله كما دخل حياة المسلمين قاطبة كثير من الانحراف، شوه صورته وكدر صفاءه، وأخطر ما شوه التصوف الفلسفة، فإن الفلسفة دخلت في الصوفية بالزندقة، كذلك مما شوه صورة التصوف وصفاءه الأول ممارسات المسلمين اليوم، فأكثر الصوفية في العالم الإسلامي تجدهم عند الأضرحة والقبور يمارسون ممارسات ليست خارجة عن حدود الكتاب والسنة فحسب، بل حتى عن التصوف الصحيح، فهؤلاء ليسوا متصوفة والصوفية منهم براء لماذا؟ لأنهم قلبوا مفهوم التصوف، التصوف في أصله الصحيح معناه التعلق الكامل بالخالق _سبحانه وتعالى_ وقطع الأمل عن المخلوق.
كما ورد عن ذي النون المصري يقول : " التصوف هو التعلق بالخالق وقطع الأمل عن الخلائق " ولكن هؤلاء المنحرفين عن التصوف عكسوا هذا المفهوم، تعلقوا بالمخلوق حياً وميتاً وانشغلوا عن الخالق، وما عاد التصوف في هذا الشكل المنحرف زهداً ولا عبادة، صار تكالباً على الدنيا؛ ولذلك هذا نداء لأهل التصوف العلماء منهم والحكماء أن يبادروا بإصلاح التصوف من داخله حتى يلحقوا بالركب المبارك؛ ركب الصحوة : صحوة أهل السنة والجماعة، وإن لم يفعلوا فسيبقى الصوفية بهذا الشكل المنحرف الذي نشاهده اليوم سادرين في غيهم محجوبين عن حقيقة الـدين وعن حقائق الأشياء، غائبين عن الصحوة الكبرى.
وأهم مثال أضربه لما أريد أن أقرره " قضية التوحيد " فإن قضية التوحيد هي كعبة هذا الدين التي بها قيامه وبدونها انهدامه، ولذلك العلماء من فقهاء ومحدثين وعباد ومن متصوفة؛ كلهم يطوفون حول هذه الكعبة ويردون حوض التوحيد.
من عبارات أهل التصوف التي يتكلمون بها وهي في ظاهرها مشكلة، ولكن فسرها شيخ الإسلام ابن تيمية بوجه صحيح كلمة " الفناء". يتحدث الشيخ عبد القادر الجيلاني عن الفناء، ويتحدث أبو إسماعيل الهروي عن الفناء.
فيقول الشيخ عبد القادر _رحمه الله_ : " افن عن الخلق بحكم الله، وعن هواك بأمره وعن إرادتك بفعله _سبحانه وتعالى_، فإن فعلت فأنت أهل لأن تكون وعاء لعلم الله ". هذه من عبارات الشيخ عبدالقادر الجيلاني _رحمه الله_ لو تأملناها على الوجه الصحيح نجدها عين التوحيد.
لا فرق بين أئمة التصوف الصحيح وبين غيرهم من الأئمة والعلماء في قضية التوحيد، يقول : " وعلامة فنائك عن خلقه بحكمه أن تقطع أملك منهم وتعتزلهم وتيأس مما في أيديهم " ـ يعني تعلقك بالخـالق وتقطع علائقك بالمخـلوق، أي لا تنافس المخلوقين في الدنيا ولا تصارعهم في التكالب عليها؛ لأنك مشغول بالخالق عن المخلوق ـ لكن يقول : " افن بحكمه " وكما شرح هناك الحكم ما هو قال : " المصباح الذي هو الحكم وهو كتاب الله وسنة رسوله_صلى الله عليه وسلم_ ".
ولكن من الإشكالات التي قد تطرأ على مثل هذه العبارات في ظاهرها قولـه : " وافن عن إرادتك بفعله " هذا قد يغلط بعض السالكين في هذا الطريق في فهمه فيظن أن معناه ألا يكون للموحد إرادة مطلقـة وهذا غير ممكن، كل حي لابد له من إرادة، وما يحبه الله ورسوله وأمر بإرادته إما أمر إيجاب أو أمر استحباب، فترك الأول معصية، وترك الثاني نقص في حق الموحد، فلا يريد الشيخ عبد القادر _رحمه الله_ أن يقول : ألا يكون للموحد إرادة أبداً، بل ألا تكون له إرادة مخالفة لإرادة الله وإرادة رسوله_صلى الله عليه وسلم_ ـ أي لما في الكتاب والسنة ـ و إلا فإن الله _عز وجل_ قد مدح أنبياءه ومدح الصديقين والصالحين بالإرادات الشرعية، فقال عن أبي بكر الصديق :" وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى" هذه إرادة. وقال لنبيه_صلى الله عليه وسلم_ : "ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه" وهذه إرادة مطلوبة، وقال : "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً " فهذه إرادة مأمور بها أيضاً، إرادة شرعية مطلوبة؛ فإذن : المراد أن تفنى عن الإرادة المخالفة للحكم الذي هو كتاب الله وسنة رسوله_صلى الله عليه وسلم_، ويفهم الفناء على وجه صحيح بمعنى كلمة " التوحيد " : أن تفنى عما سوى الله وتفنى في حب الله، كيف ذلك؟
معنى النفي في قوله : (لا إله) أن تنفي عما سوى الله جميع صفات الإلهية واستحقاقات العبادة. (إلا الله) أن توجهها للمعبود _سبحانه وتعالى_ فتفنى عن السوى، لا تشعر به ولا تتعلق به، وتفنى في المعبود _سبحانه وتعالى_ بمعنى أن حبه يتخلل قلبك كله بحيث لا يبقى فيه متسع لغيره، مع أنه _سبحانه_ من رحمته لم يفرض هذا على عباده، الذي فرضه عليهم أن يكون الجزء الأكبر من قلبك مفرغاً لحبه ويبقى جزء لباقي أنواع المحبات الطبيعية.
قال: "والذين آمنوا أشد حباً لله" ولم يقل والذين آمنوا فرغوا قلوبهم كلها لله، لكن" أشد حباً لله" ولكن من فرغ قلبه كله لله، هذا وصل إلى مقام أعلى وأعظم، فبعضهم يقول: إن هذا ينتج غياباً للمحب في المحبوب، فلا يشهد نعت المحبوب؛ لأنه غاب بمشهوده عن شهوده ـ هذه من مصطلحات القوم ـ أي من شدة تعلقه بالمحبوب المعبود _سبحانه وتعالى_ يغيب بمشهوده عن شهوده، يعني غاب من شدة تعلقه بالمعبود عـن شهود العبودية وعن شهود صفات المعبود _سبحانه وتعالى_.
يقول شيح الإسلام ابن تيمية : " قد يحصل هذا لبعض العباد نتيجة ضعف قلبه وقوة حبه وقوة تعلقه، ولكن أكمل الخلق محبة لله الخليلان إبراهيم ومحمد _عليهما الصلاة والسلام_ ومحبتهما لله أكمل وأعظم من محبة غيرهما، ومع ذلك لم يغيبا عن شهود العبودية، كان شهودهما للعبودية ـ أي وعيهما بعبوديتهما لله _تعالى_ ـ حاضراً في جميع الأحوال، ووعيهما بنعوت الكمال والجلال في المعبود المحبوب _سبحانه وتعالى_ حاضراً في جميع الأحوال، وهذا أكمل من ذاك، ذاك فناء فيه غيبوبة وفيه غياب، وهذا فناء فيه حضور وشهود.
والذي نفهمه من الحديث أنه كلما ارتقى الموحد في درجات التوحيد حتى يصل إلى سلم الإحسان فيرتقي في مقامات الإحسان حتى يقرب من محبوبه _سبحانه وتعالى_ يكون نتيجة ذلك البقاء لا الفناء، والشهود لا الغياب، والكشف لا الحجاب كيف ذلك؟ : يقول النبي_صلى الله عليه وسلم_ : " قال الله _تعالى_ ما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلى مما افترضته عليه ـ أداء الفرائض أولاً إذا أردت أن ترقى في السلم ـ ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه " هذا التفرغ بالذكر والعبادة والتقرب إلى المعبود _سبحانه وتعالى_ بارتقاء هذا السلم سلم الإحسان، ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، ولهذا يقول بعض الظرفاء من المفسرين في قوله _تعالى_ :" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" يقـول : ليست القضية أن تحب الله، القضية أن يحبك الله، هذه هي النتيجة العظمى. هنا يقول:" حتى أحبه " إذا وصل الموحد إلى هذا المقام وصل. ويقولون: " الواصلون " هؤلاء هم الواصلون الذين وصلوا إلى درجة أن يحبهم الله؛ لأنهم فرغوا قلوبهم لذكره وعبادته وأسهروا ليلهم وأظمؤوا نهارهم ومازالت ألسنتهم رطبة بذكر الله بينما الدنيا كلها تلهث خلف السراب في غفلة سادرون.
إذا وصل إلى هذا المقام العظيم من مقامات الإحسان ما هي النتيجة؟ : " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بهـا، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " وفي رواية ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية : " فبي يسمع وبي يرى وبي يبطش وبي يمشي وبي يعقل وبي ينطق ". هذا شهود أو غياب؟ هل هذه غيبوبة؟ هذه ليست صفات الغيبوبة ولا صفات الحجاب، هذه صفات الشهود، عندئذ يكون عبداً ربانياً يسمع ويبصر ويتحرك ويمشي ويعقل وينطق،كل ذلك بتوفيق الله _عز وجل_. هذا هو المعنى الصحيح للفناء إن كان للفناء معنى صحيح، وفي الحقيقة هذا هو البقاء، وهذا هو الشهود، وهذا هو الوعي الكامل.
الخليل محمد_صلى الله عليه وسلم_ وصل إلى أعلى مقام، مقام لم يصل إليه مخلوق ولا جبريل رئيس الملائكة، تأخر جبريل وتقدم محمد_صلى الله عليه وسلم_ حتى سجد بين يدي المعبود، زالت كل الحجب وبقي الحجاب الأخير، وكما قال_صلى الله عليه وسلم_ : " وحجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما امتد إليه بصره _سبحانه وتعالى_ " هذا الحجاب لا يكشف في الدنيا، لم يكشف لموسى _عليه السلام_ ولم يكشف لمحمد_صلى الله عليه وسلم_ ولكن ما وصل أحد إلى أعلى من هذا المقام، ومع ذلك كان وعي النبي_صلى الله عليه وسلم_ حاضراً وشهوده كاملاً، ما غاب عقله ولا زاغ بصره ولا طغى بصره، وعى كل ما رأى وكل ما ألقي إليه وروى ذلك لأصحابه ولأمته : " يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع ". سمع هذا وهو في ذاك المكان ورواه للأمة، معناه أنه وصل وهو بكامل شهوده.
ادعوا أهل التصوف الصحيح من علماء وحكماء أن يبادروا بإصلاح التصوف إن أرادوا أن يلحقوا بركب الصحوة المباركة، صحوة أهل السنة والجماعة، وكما يقول الفقهاء في محترزات التعريف أقول : صحوة أهل السنة والجماعة، هذه الدائرة الكبرى لا يبقى خارجاً منها إلا الروافض؛ الروافض ليس بيننا وبينهم إلا كما قال الشاعر :
ليس بيني وبين قيس عتاب غير طعن الكلى وضرب الرقاب
ومن تخيل أنه يمكن أن يلتقي مع الروافض فهو واهم لم يقرأ التاريخ ولا يعرف الروافض أصلاً ولا عقائدهم، كلما تقربت منهم تباعدوا عنك، وكلما توددت إليهم حقدوا عليك، ما تركوا هذه الخصلة أبداً على مدار التاريخ، ولست هنا بصدد الحديث عن هؤلاء الذين يقفون خارج الدائرة، ربما يكون لهذا مناسبة أخرى.. أنا هنا أتحدث عن المدارس التي داخل دائرة أهل السنة والجماعة، ومدرسة التصوف الصحيح من هذه المدارس، فعلى عقلاء التصوف وعلماء التصوف أن ينقوا صورته التي شوهت كثيراً، وأن يبادروا بحركة الإصلاح وإعادة هذا التصوف إلى وجهه الصحيح وجذوره الأولى و إلا فالفناء حق عليهم وركب الصحوة سائر في طريقه. هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأكرم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
التصوف الصحيح هو عين التوحيد (د عبدالعزيز القاري) ======================================= | |
|