فى الحضرة ::

موضوع: فى الحضرة :: الإثنين يناير 24, 2011 7:42 pm

بسم الله و الحمد لله و الصلاة و السلام على خير خلق الله

ثم اما بعد

اليكم اخوانى

بمنتديات حاكم الروحانية

لعلوم القرآن

فى الحضرة ::

مقال عن سيدنا الشيخ صالح الجعفرى

الاحد:

في طريقي إلي مسجد ومقام الشيخ صالح الجعفري، أمر بحارة سيدي معاذ. أعرف أن احتمال وجود صاحبي القديم وزميل دراستي منذ الطفولة حسن بكر قليل جدا، لكنني أمضي علي أمل، الحارة سالكة، أدخلها من ناحية شارع الازهر. وسأخرج الي شارع الدراسة. الثامنة مساء، ظلال المساء، البيوت لاتزال في مواضعها حول المسجد الاثري القديم، اتوقف امام باب البيت الذي كان مكونا من طابق واحد في زمننا المولي، قبل أن يضاف اليه طابق آخر، لحسن الحظ ان حسن احتفظ بشقته هنا رغم تنقله في البلاد والمدن، مجرد وجوده يشعرني بأن ثمة مكانا يخصني في القاهرة القديمة، مكانا جذوره ممتدة الي ايامنا الغوارب، أصعد السلالم القليلة. لا ضوء، مع ذلك اضغط الجرس، لا أحد، اعود الي الطريق متأملا النافذتين المغلقتين. لكم تطلعنا عبرهما، خاصة في ليالي المذاكرة، يظهر في ذاكرتي بائع لبن زبادي، يحمل فوق رأسه طاولة، ليلة من ليالي رمضان، أستعيد مذاق الزبادي القديم الذي كان يعد في زبادي الفخار، تعلو سطحه طبقة من القشدة، امضيت وقتا طويلا أظن فيه ان الزمان يندثر والمكان يبقي، غير أنني في بحثي عما ارتبطت به، ادركت ان المكان ايضا يختفي، يولي. حتي وان بقيت معالمه ماثلة.

الاحد مساء:

الشيخ صالح

للعارف بالله سيدي صالح الجعفري حضرتان، يومي الخميس والأحد: تبدآن بعد صلاة المغرب، وتستمران الي مابعد العشاء، يواظب شقيقي علي اداء الصلاة وحضورهما، ألمحه عند باب المسجد الذي تحول المكان حوله بفضل المريدين والاحباب الي مؤسسة كاملة فيها مستوصف ومدرسة ودار لرعاية المحتاجين.
الشيخ صالح هو الوحيد من بين اولياء الله الصالحين الذي عرفته ساعيا في الحياة الدنيا، وتابعت تأسيس طريقته واستمرارها، أمد الله في عمر ابنه الشيخ عبدالغني، منذ طفولتي كان الوالد الكريم يصحبنا الي الازهر، الي درس العصر، هناك رأيت وأصغيت إلي الشيخ صالح، كان مهيبا، قوي الحضور، له جلال وعنده مصدر هيبة، يلقي الدروس إما واقفا او قاعدا مستندا الي عمود، هذا تقليد ازهري قديم إندثر فيما تلا ذلك ويحاول الدكتور أحمد الطيب اعادته الآن، التدريس طبقا للطرق التقليدية في صحن الازهر، حيث يجلس الاستاذ العالم فوق كرسي مستندا الي عمود، وتلك هي المرتبة الأرقي، من هنا انتقل الي جامعات العالم نظام التدريس الحر، وعجرف تعبير 'أستاذ الكرسي'.
لم يكن الشيخ صالح عالما عظيما، وفقيها ملما، وعابدا ورعا، انما كان مثالا وقدوة، اذكر اننا التقينا به ذات صباح باكر خارج المسجد، وعندما صافحه الوالد سائلا الدعاء منه، مستفسرا عن المقصد، فمن النادر رؤية الشيخ الجليل خارج الازهر، قال انه في طريقه الي اجراء مكالمة هاتفية من صيدلية مجاورة، تساءل الوالد، ولكن عندك يامولانا تليفون في الرواق، عندئذ قال، التليفون في الرواق لما يخص الازهر والناس، اما تلك المكالمة فتخصني، رحمهما الله رحمة واسعة.
نصف قرن أمضاه الشيخ صالح ينام في الرواق فوق حصيرة، بعد وفاته راجت سيرته وفضائله بين الناس، وتأسست الطريقة الجعفرية نسبة الي قبيلة الجعافرة الممتدة بين مصر والسودان. للحضرة ترتيب ومناخ ومنها انفعال، تقرأ فيها الاذكار والمدائح النبوية التي نظمها الشيخ، ويتجاور فيها الفقير مع الثري، في القاهرة القديمة تصاعدت اصوات الدراويش من جميع الجنسيات عبر العصور المتتالية من المساجد والتكايا، ولايزال الملمح باقيا في تلك الحضرات رغم تغير الازمنة والأمكنة.
أول ثلاثاء بدونه:
انه الثلاثاء الاول بدونه، انتظر حلول السادسة مساء حائرا، ماذا سأفعل عند دنوها؟ وعيي مكتمل انه لن يكون هناك، لسنوات طويلة انتظمت حياتي حول هذا التوقيت، لا اتخلف عنه الا لمرض او سفر، كأن الارض سحبت من تحتي فجأة، او كأنني اجد نفسي علي حافة بدون حاجز، يعمل الصحب الذين اعتادوا الحضور علي استمراريتها، غير انني في حاجة الي مضي فترة حتي استوعب، تماما كما جري ذلك بعد رحيل والدي، ظل توقعي بظهوره فجأة مسيطرا علي، وعندما أعي الغياب الابدي كأنني ألامس حدا قاطعا، شفرة رهيفة لكنها يمكن أن تشطرني.

الثلاثاء:

لسنوات طويلة لا اخلفه، احيانا يصل بي الحال بعد يوم طويل الي حالة من الاعياء الشديد اكون عندها غير قادر حتي علي التنفس، غير انني امضي، أحرص علي الوصول قبله، عند اجتيازه باب الصالة المخصصة لنا في العوامة التي شاء القدر ان تنقطع علاقتنا بها قبل سقوطه في البيت بأسبوع بعد انتقال ملكيتها، وشعورنا اننا اصبحنا ضيوفا غير مرغوب فيهم، لذلك تفصيل سأذكره فيما بعد، اليوم ثلاثاء، استعيد فيه ما كان، ما ظننت انه لن يكون ماضيا، كل شيء صائر الي ماض، منقض، انما نحن في طي دائم.
أكاد اسمعه..

الاربعاء:

تلك الحيوية

احساس بالذنب يغمرني..
لماذا ذلك الشعور بالحيوية، بالرغبة في الحركة، في الحديث الي الناس، في التجول بشوارع القاهرة القديمة التي اعشق وألملم لحظات العمر، لماذا تلك الشهية المفتوحة الي تناول ما يسمح طبيبي به؟ لماذا التوق الي السفر؟ لماذا أتمني اتساع عيني علي اقصاهما حتي اري ما لم أره من قبل؟
من أي مصدر تلك الحيوية؟من اي نبع؟
أكاد اشعر بأيدي خفية تدفعني من داخلي لأتجه من هنا الي هناك، لأتوق، لأرغب، لأبلغ.
لقد عرفت مثل تلك الحيوية من قبل في اليوم التالي لرحيل امي.
هل يكون مصدرها دنو العدم، فعندما يلوح الابيض ندرك عمق الاسود، عندما يطول الغياب نحلم بالوصول، تتوالي الاسئلة، غير ان الاحساس بالذنب يغمرني، كيف تتدفق مني هذه الحيوية والصاحب الحبيب هناك بمفرده، يسري إلي الأبدية وأنا باق الي حين..

الخميس:

في العيد القومي لمحافظة القاهرة ألقيت كلمة دعوت المحافظ النشط الدكتور عبدالعظيم وزير الي تنفيذ مشروع، المزارات الادبية في القاهرة، في المدينة العريقة عاش الكثيرون من مشاهير العلم والادب عبر اكثر من الف سنة، ابن خلدون مدفون في مقابر باب النصر، المقريزي، اقطاب الصوفية، الشاعر العظيم عمر بن الفارض، وأخيرا نجيب محفوظ الذي اكتشف احياء ومناطق القاهرة القديمة ادبيا وانسانيا، اعرف كثيرين من الاجانب والعرب يجيئون بقصد زيارة زقاق المدق او السكرية لكنهم لا يجدون من يدلهم الي تلك الدروب والأزقة، بل ان بعض معالم الأماكن بدأت تتغير، حتي اللافتات التي تحمل اسماء الاماكن تختفي، هذه اللافتات الزرقاء والتي كتبها بخط عربي جميل احمد هواويني الخطاط الموهوب مما دعا الملك فؤاد الي منحه درجة الباكوية، هذه اللافتات بدأت تتعرض للسرقة ويظهر بعضها الآن في محلات التحف، لافتة زقاق المدق سرقت منذ سنوات ولم يوضع غيرها، المشروع الذي اقترحته يقضي باحياء ذاكرة المكان، ليس من خلال الاشارة الي من عاش فيه، ولكن الي ما انتج بوصية عبر لافتات ومراكز معلومات، اخيرا قرر محافظ القاهرة تشكيل لجنة من المفكرين والمؤرخين لاحياء الاماكن التي كتب عنها نجيب محفوظ، وبالتالي يعتبر ذلك الخطوة الاولي في مشروع المزارات الادبية الذي يستهدف الحفاظ علي ذاكرة المدينة الثقافية والانسانية.

قرآن كريم

'فّسّتبصِر وّيبصِرونّ'
'آية 5 سورة القلم'

للكاتب (جمال الغيطانى )

================================